أخر المواضيع
recent

البيولوجيا الجديدة - عندما يلتقي العقل بالمادّة ج20

عندما يلتقي العقل بالمادّة ج20


كيف يعمل الدماغ؟ 

رسم كارتوني" للوصلات البينيّة في الدماغ من "جيري فان آميرونجين
رسم كارتوني" للوصلات البينيّة في الدماغ من "جيري فان آميرونجين

الدماغ البشري عبارة عن مجموعة من الوصلات التي تنشأ عن "تجارب"، وهي التجارب التي تدخل إلى حيّز إدراكنا الحسّي. فالإدراك الحسّي هو في حدّ ذاته "تجربة". وعندما نمرّ بتجربة الإدراك الحسّي لشيء من الأشياء، فإنّنا نُباشر بإعداد أجسامنا لكي تستجيب لذلك الإدراك. 

فعندما يقع الضوء على عيني، فإنّه ينتقل عبر أعصابي على هيئة "ذبذباتٍ كهرومغناطيسيّة". والصوت عندما يصِل إلى أذُني، فإنّه ينتقل إلى دماغي عبر أعصابي على هيئة "ذبذباتٍ كهرومغناطيسيّة". أمّا "اللّمس"، فهو "ضغطٌ فيزيائي"، إلاّ أنّه ينتقل عبر ذراعي على هيئة "ذبذباتٍ كهرومغناطيسيّة" أيضاً. 

فالدماغ إذاً، يقوم بتحويل كلّ تلك المؤثّرات البيئيّة، إلى "ذبذباتٍ كهرومغناطيسيّة"، ومن ثم، تتحوّل تلك الذبذبات إلى "إدراك" بالنسبة لنا. والدماغ هو الذى يعمل على تسجيل كلّ تلك التجارب. 


محول الطاقة

وما يحدثُ هو أنّنا عندما نمرّ بتجربةٍ ما، فإنّنا لا "نرى" صورةً فقط بواسطة إدراكنا بالضوء، ولكنّنا نقوم أيضاً بتسجيل قدرتنا على تذكّر تلك التجربة في وقتٍ لاحق. ونتيجة لذلك، فإنّني سّأتمكّن من المرور بتلك التجربة مرّةً أخرى عندما أقوم بإعادة تشغيل ما تمّ إدراكه وتسجيله بواسطة دماغي في فترةٍ ماضية. أي أنّ الدماغ هنا يعمل كآلة للتسجيل. وهو مثل "الكاميرا" في عمليّة إلتقاطه للشرائح. 


الدماغ يعمل كما تعمل الكاميرا
الدماغ يعمل كما تعمل الكاميرا

و"الإدراك" يعمل كالمصباح الذي يُسقِط الضوءَ على الشريحة. فعندما أقوم بإستدعاء شيء ما كنتُ أدركتُه مسبقاً لكي أُعيد تشغيله من خلال الشريحة (المحفوظة في الذاكرة)، فإنّني بذلك سأعمل على إعادة القيام بسلوك معيّن. 


محول الطاقة

إن غالبيّة البشر، يكرهون عبارات مثل: "أنتَ بالضبط مثل أمّك"، أو "أنتَ بالضبط مثل أبيك". وعندها قد يقول البعض منهم: "لا، هذا غير ممكن". ولكنّ الواقع هو أنّ ذلك "ممكن"، لكونك تعلّمتَ السلوك الذي تسلكه منهم، كما أنّ هذا السلوك، ليس إلاّ إعادة لتشغيل التجارب التي مررتَ بها. ولكنّك ربّما تُجادل وتقول: "لا، إنّ لي إرادةً حرّة، إنّ لي عقلاً، وأنا قادر على التفكير في أشياء مختلفة". 

وهنا سأورد لكم هذه الحقيقة: فقد كُشف عن أنّ هنالك حوالي (4 بلايين) نبضةً عصبيّة تمرّ عبر دماغك في الثّانية الواحدة! 
ولكن ما يمكنني التعامل معه من تلك النبضات في الحالة الواعية، لا يتجاوز ال(2000 جُزء) من تلك النبضات! فماذا يعنى ذلك؟ إنّه يعني أنّك لن تكون "مُدركاً" بشكلٍ واعٍ، بمعظم المعلومات التي تصل إليك. 

حسَناً، هاكم مثالاً عن ذلك: فليحاول كلّ واحد منكم، الإنتباه للقميص الذي يرتديه، فقط ركّزوا إنتباهكم عليه. هل تستطيعون "الإحساس" به؟ 

والنقطة هي: هل كنتم "تحسُّون" بالقمصان التي ترتدونها قبل أن أطلب منكم ذلك؟ ربّما أجاب البعض منكم على هذا السؤال قائلاً: "لقد كنّا نحسّّ بها طوال الوقت، فأحاسيسنا لا تتوقّف عن العمل، لقد كانت دائما هناك". 

والحقبقة هي أنّكم لم تكونوا "تحسُّون" بما ترتدون، لأنّ ذلك لم يكن ضروريّاً بالنسبة لكم. فأدمغتكم من الذكاء، بحيث أنّها لا ترفع الأشياء المعروفة لديها، لمستوى الإنتباه الواعي لديكم. والسبب في ذلك، هو أنّ الإنتباه الواعي لديكم، لن يتمكّن من التعامل إلاّ مع نسبةٍ ضئيلةٍ من النبضات العصبيّة التي ترٍد إليه. 

والآن، تخيّلوا 4 بلايين نقطة ضوئيّة صغيرة (Pixels) يتشكّل منها هذا المنظر الطبيعي (الصورة أدناه): 




وتلك النقاط، هي كلّ المعلومات الواصلة إلى دماغك فى الوقت الذي تُشاهد فيه الصورة. فكم معلومة من تلك المعلومات، ستصل لمستوى "وعيِك" في الواقع؟ 

والآن، هل ترون تلك النقطة الصغيرة في الصورة أدناه؟: 




(هذه فقط هي المعلومة التي يمكنها الوصول لمستوى "الوعي" من كلّما في الصورة الكاملة). مع العلم، بأنّه تمّ تكبير هذه النقطة (1000 مرّة) حتى يمكنكم مشاهدتها! 

وربّما تساءلتم: "أين كان كلّ ذلك؟ ماهى كلّ هذه الأشياء؟". إنّها "المعلومات الواصلة إلى أدمغتكم في الوقت الحالي. ولكن، لماذا لم تكونوا "واعين" بها؟ 

والإجابة: لأنّكم في صميمكم، كنتم قد تعلّمتم مسبقاً الكيفيّة التي تفعلون بها الأشياء، أو تستجيبون بها للإشارات، دون حاجة منكم لوصول كلّ تلك التفاصيل لمستوى الإنتباه الواعي لديكم. 

إنّ مُعظم السلوك الذي نسلكه، ناتج عن "إعادة تشغيل" التجارب التي مررنا بها مرّات ومرّات. فأنتَ لذلك، لا تُفكّر بشكلٍ واعٍ، في مُعظم الأنماط السلوكيّة التي تصدر عنك. وهاكم مثالاً على ذلك: 

هل حدث أبدا أن ركبتَ في سيّارتك، ثمّ دخلتَ في نقاشٍ مع الشخص الذي بجوارك أثناء قيادتك للسيّارة؟ تمّ بدأتَ تتحدّث، وتتحدّث. ثمّ إذا بك وبعد إنقضاء نصف ساعة من الوقت، تُدرك بأنّك كنتَ قد قُدتَّ سيّارتَك لنصف ساعة من الوقت، إلاّ أنّك لم تكن منتبهاً لأي شيء في الطريق، وأنّ كلّ ما أدركتَه، هو وصولك أخيراً للمكان الذي كنتَ بصدده، ولكن دون أن تصطدم حتى بأي شيء على الطريق؟. 

وهذا يدلّ على أنّ القيادة أصبحت بالنسبة لك، من التجارب التي تعلّمتَها ثم قمت بتخزينها فى دماغك، بحيث أمكنك مزاولتها بطريقةٍ آليّة. والمشي كذلك، من التجارب التي يتمّ تعلّمها. لقد تعرّضتُّ لكسر في الركبة قبل بضع سنوات، وبعدما أعيد تركيبُها لي، كان يتوجّب علي أن أتعلّم المشي من جديد. وقد إستغرقني ذلك تدريباً كاملاً عن كيفيّة تحريك الساق والوقوف عليها وما إلى ذلك، وذلك لأنّ جميع المسارات العصبيّة القديمة كانت قد تعرّضت للقطع. أمّا اليوم، فعندما أمشي على الطريق، فإنّني أفعل ذلك دون "تفكير"، وذلك بالرغم من أنّ تلك العمليّة، تتطلّب نتسيقاّ هائلاً. 

إنّ مُعظم أشكال السلوك الصادرة عنّا، تحدث بطريقة آليّة، وعالية الشفافية بحيث لا يمكننا رؤيتها. كما أنّنا نتفاعل مع الغير بشكلٍ آلي أثناء أدائنا لأعمالنا، ولا "نفكّر" فيما نفعل. فكيف يمكنك الجمع بين عملك الذي تؤدّيه، وبين الأفكار الأخرى التي تجول برأسك، وتحتلّ حيّزاً صغيراً من وعيك؟ 

والإجابة هي: إنّ جميع أفعالنا تقريباً، تحدث خارج مجالنا البصري، ونحن لذلك لا "نراها"، ويتمّ تكرارها بطريقة آليّة. ولكن ، مالمشكلة في ذلك؟ 

قد تُحدّث نفسك قائلاً: "إنّني أحاول أن أكون جيّداً، وأريد أن أخسر وزناً. إنّنى أريد كل تلك الأشياء، ولكن لماذا لا يمكنني التحكّم بذلك؟" 

والإجابة هي: لأن "وعيك" بهذه الأشياء، لا يحتلّ سوى بقعة صغيرة في دماغك. فمعظم السلوك الذي تسلكه (أي ما نسبتُه 99.9999%)، سبق وتمّت برمجته بواسطة التجارب التي تعلّمتَها من قبل. فمن غير الممكن لك أن تخسر وزناً لمجرّد أنّ "نقطةً" صغيرة فى وعيك، طالبتكَ بذلك. إذ أنّ من واجبك الإدراك بأنّ الزيادة في وزنك، ناجمة عن تجارب تعلّمتَها، وأصبحتَ الآن "مُبرمَجاً" بها. 

ومع ذلك، فسيمكنك التخلّص من ذلك البرنامج، إذا تمكّنت من "تفعيل" قدرتك على النسيان. 

وسأطرح الآن عليكم مثالاً في هذا الخصوص: هل تذكرون فيلماً بعنوان "هنري مع هاريسون فورد"؟ 



لقد كان في الفيلم ،محامي تعرّض لإطلاق النار، ثم أفاق بعد ذلك في المستشفى، إلاّ أنّه أُصيب بالنسيان. وقد كان يحدّث نفسه قائلاً: "من أنا؟ أين أنا؟". وبعد ذلك، تمّت إعادته لمنزله. ثمّ باشر الذهاب لعمله، حيث وجد زملاءه في العمل حاضرين. ثمّ بدأ الرجل بمراجعة صورة حياته من على البُعد، فى محاولة منه لإستعادة الصورة التي إنمحت من ذاكرته بسبب "النسيان" إلى مكانها الذي كانت عليه فيما مضى. وبينما كان منهمكاً في محاولة إستعادة الصورة السابقة عن حياته، توقّف فجأةً وغيّر رأيه قائلاً لنفسه: "أتعلَم، لقد كانت صورتي تلك، صورةً مثيرةً للإشمئزاز. لقد كانت حياتي تلك، حياةً مثيرةً للإشمئزاز". ثم خاطب نفسه قائلاً: "سوف أبدأ بصنع حياة جديدة بالكامل". ثمّ ما لبث أن بدأ الرجل بإستبدال مُعتقداته بمُعتقداتٍ جديدةٍ كلّيّاً، ما أدّى لتحوّلٍ سريع في مسار حياته. 

والنقطة المُهمّة هي: ما لم تُصاب بالنسيان، فستظل جميع معتقداتك، محبوسة بداخلك. وبغض النظر عمّا قد يدور في وعيك من رغبات، مثل رغبتِك في أن تفعل كذا وكذا، فإنّ من واجبك الغوص فى لُبِّ المُعتقد الكامن بداخلك. لأنّك إن لم تفعل، فسوف تجد أنّ أفكارك، ليست مُطابقةً لأفعالك. 

وقد تقول لنفسك: "لا أدري، لماذا لا يُحبُّني الناس، على الرغم من أنّني شخصٌ طيّب". ثم ما تلبث أن تُخاطب شخصاً ما قائلاً: "أخرج من هنا، لا تُسبّب لي الإزعاج، فأنا الآن أتحدّث". ثم تعود مرّة أخرى وتقول لنفسك: "هل رأيت، إنّني بالفعل شخصٌ طيّب".. وهكذا. 

والسبب، هو أنّنا نكون غير مُنتبهين لأنفسنا بينما نتحدّث، لأنّ ذلك السلوك، هو سلوكٌ مُبرمَجٌ فينا مُسبقاً. ولكنّنا عندما نعود لحالة "الوعي"، فسوف نُصاب بالإنزعاج لحقيقة كوننا "غير مرغوبين". والمُهمّ هنا، هو أن نخلق رابطاً بين فهمِنا من جهة، ومُعتقداتنا من جهةٍ أخرى، وأن نعلم بأنّ "مُعتقداتنا" هي التي تؤدّي لإنتقاء جيناتنا، وأنّ تلك المُعتقدات، هي أشياء تمّت برمجتُها فينا مُسبقاً. 
Grini

Grini

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.